مواطن الثبات
وهي كثيرة تحتاج إلى تفصيل، نكتفي بسرد بعضها على وجه الإجمال في هذا المقام:
أولاً: الثبات في الفتن:
التقلبات التي تصيب القلوب سببها الفتن، فإذا تعرض القلب لفتن السراء والضراء فلا يثبت إلا أصحاب البصيرة الذين عمّر الإيمان قلوبهم.
ومن أنواع الفتن:
- فتنة المال: {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ } التوبة /75،76
- فتنة الجاه:{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} الكهف /28.
وعن خطورة الفتنتين السابقتين قال صلى الله عليه وسلم: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه) رواه الإمام أحمد في السند 3/460 وهو في صحيح الجامع 5496. والمعنى أن حرص المرء على المال والشرف أشد فساداً للدين من الذئبين الجائعين أرسلا في غنم.
- فتنة الزوجة: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } التغابن /14.
- فتنة الأولاد: (الولد مجبنة مبخلة محزنة) رواه أبو يعلى 2/305 وله شواهد، وهو في صحيح الجامع 7037.
- فتنة الاضطهاد والطغيان والظلم: ويمثلها أروع تمثيل قول الله عز وجل: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} ) البروج 4-9.
وروى البخاري عن خباب رضي الله عنه قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة، فقال عليه السلام: (قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيُجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد، من دون لحمه وعظمه، فما يصده ذلك عن دينه ) رواه البخاري، انظر فتح الباري 12/315.
- فتنة الدجال: وهي أعظم فتن المحيا: (يا أيها الناس إنها لم تكن فتنة على وجه الأرض منذ ذرأ الله آدم أعظم من فتنة الدجال.. يا عباد الله، أيها الناس: فاثبتوا فإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه قبلي نبي..) رواه ابن ماجه 2/1359 انظر صحيح الجامع 7752.
وعن مراحل ثبات القلوب وزيغها أمام الفتن يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى يصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربداً كالكوز مجخياً لا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً، إلا ما أشرب من هواه) رواه الإمام أحمد 5/386، ومسلم 1/128 واللفظ له. " معنى عرض الحصير: أي تؤثر الفتن في القلب كتأثير الحصير في جنب النائم عليه. ومعنى مربداً: بياض شديد قد خالطه سواد، مجخياً: أي مقلوباً منكوساً. "
ثانياً: الثبات في الجهاد:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ } الأنفال /45. ومن الكبائر في ديننا الفرار من الزحف وكان عليه الصلاة والسلام وهو يحمل التراب على ظهره في الخندق يردد مع المؤمنين: (وثبت الأقدام إن لاقينا) رواه البخاري في كتاب الغزوات، باب غزوة الخندق انظر الفتح 7/399.
ثالثاً: الثبات على المنهج:
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} الأحزاب /23 مبادئهم أغلى من أرواحهم، إصرار لا يعرف التنازل.
رابعاً: الثبات عند الممات:
أما أهل الكفر والفجور فإنهم يحرمون الثبات في أشد الأوقات كربة فلا يستطيعون التلفظ بالشهادة عند الموت، وهذا من علامات سوء الخاتمة كما قيل لرجل عند موته: قل لا إله إلا الله فجعل يحرك رأسه يميناً وشمالاً يرفض قولها.
وآخر يقول عند موته: " هذه قطعة جيدة، هذه مشتراها رخيص "، وثالث يذكر أسماء قطع الشطرنج. ورابع يدندن بألحان أو كلمات أغنية، أو ذكر معشوق.
ذلك لأن مثل هذه الأمور أشغلتهم عن ذكر الله في الدنيا.
وقد يرى من هؤلاء سواد وجه أو نتن رائحة، أو صرف عن القبلة عند خروج أرواحهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
أما أهل الصلاح والسنة فإن الله يوفقهم للثبات عند الممات، فينطقون بالشهادتين.
وقد يُرى من هؤلاء تهلل وجه أو طيب رائحة ونوع استبشار عند خروج أرواحهم.
وهذا مثال لواحد ممن وفقهم الله للثبات في نازلة الموت، إنه أبو زرعة الرازي أحد أئمة أهل الحديث وهذا سياق قصته:
قال أبو جعفر محمد بن علي ورّاق أبي زرعة: حضرنا أبا زرعة بما شهران قرية من قرى الري وهو في السَّوْق أي عند احتضاره وعنده أبو حاتم وابن واره والمنذر بن شاذان وغيرهم، فذكروا حديث التلقين (لقنوا موتاكم لا إله إلا الله) واستحيوا من أبي زرعة أن يلقنوه، فقالوا تعالوا نذكر الحديث، فقال ابن واره: حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن صالح، وجعل يقول ابن أبي - ولم يجاوزه - فقال أبو حاتم: حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم، عن عبد الحميد بن جعفر، عن صالح، لم يجاوز، والباقون سكتوا، فقال أبو زرعة وهو في السَّوْق " وفتح عينيه " حدثنا بُندار حدثنا أبو عاصم حدثنا عبد الحميد عن صالح ابن أبي غريب عن كثير بن مرة عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة) وخرجت روحه رحمه الله. سير أعلام النبلاء 13/76-85.
ومثل هؤلاء قال الله فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} فصلت /30.
اللهم اجعلنا منهم، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.